السلطان سليم الثالث صاحب فكرة النظام الجديد الذي قتله الانكشارية

السلطان سليم الثالث صاحب فكرة النظام الجديد الذي قتله الانكشارية

عد انتهاء الحروب توجه السلطان نحو الإصلاحات الداخلية فقد أدرك أن سبب الهزائم ليس التفوق الأجنبي فقط بل الضعف الداخلي وانتشار الفساد

-ولد سنة 1175 هجرية الموافق 1761م، وتوفي 1222 هجرية الموافق 1808م، و قد تولى الحكم وهو في السابعة والعشرين من عمره، بعد وفاة عمه السلطان عبد الحميد الأول سنة 1203 هجرية، وأمضى في الحكم 19 عامًا، وكان من حسنات الأخير الكبرى أنه لم يقم بحبس ولي عهده كما كان متبعا في الأعراف السلطانية، وهذا أثر إيجابيا على ولي العهد، فجاء مثقفا، ذكيا، نشيطًا، عالمـًا بأحوال بلاده، مطلعًا على أحوال العالم.

-ورث السلطان تركه ثقيلة من سلفه، متمثلة بحرب طويلة ودامية مع روسيا والنمسا، وكان من نتائج استمرار الحروب أن فقدت الدولة عام 1789م ولايات البغدان، والإفلاق، وصربيا، ثم هدأت معظم الجبهات عام 1790م.

-على الرغم من انتصارها الساحق على العثمانيين، واحتلالها للإفلاق وصربيا، سعت النمسا للسلام مع الدولة العثمانية، وبناء عليه عقدت معاهدة سيستوڤا في 4 أغسطس 1791م برعاية بروسيا وبريطانيا وهولندا، وفيها قبلت النمسا بإرجاع كل ما أخذته من الدولة العثمانية، وهذا يشمل كامل الإفلاق وصربيا، وكذلك مدينة بلجراد الاستراتيجية. وأخذت مدينة أورسوڤا، وبلدتين صغيرتين على حدود البوسنة وكرواتيا.

-تمكنت الدولة العثمانية من توقيع معاهدة سلام مع روسيا، وأعدت بموجب معاهدة ياسي في9 يناير 1792م إقليم البغدان كله للدولة العثمانية، ولم تحتفظ إلا بالأراضي الواقعة بين نهري بوج ودنيستر، وهذه الأرض الجديدة منحت منفذًا روسيا جديدًا على البحر الأسود، وبهذا صار نهر دنيستر، وليس بوج، هو الفاصل بين الحدود العثمانية والروسية، ونصت المعاهدة على اعتراف الدولة العثمانية بأن أرض القرم صارت جزءًا من الإمبراطورية الروسية.

-بعد انتهاء هذه الحروب وهدوء الجبهات، توجه السلطان سليم الثالث نحو الإصلاحات الداخلية، فقد أدرك إن السبب الأكبر للهزائم العسكرية ليس التفوق الأجنبي فقط؛ بل الضعف الداخلي للدولة وانتشار الفساد.

-أول خطوات الاصلاح بدأت بالقوات المسلحة، وكان سبيله إلى ذلك إنشاء قوات عسكرية نظامية منضبطة لا تتأثر بفساد الانكشارية، فقرر تأسيس فرقة جيش جديدة أطلق عليها اسم "النظام الجديد"، وجعلها من فرق المشاة حتى لا يغار منها الإنكشارية أو السباهية الخيالة، ونسقها على النظام الأوروبي الحديث، ويتم اختيار جنود هذه الفرق من فلاحي مقاطعات الأناضول، ووصل عددهم عام 1806م إلى 24 ألفًا، كلهم يستوعب المهام العسكرية بكفاءة عالية، ويدين بولائه للدولة.

-أنشأ السلطان المدرسة الإمبراطورية للهندسة العسكرية عام 1795م، وهي أول تقام على النظم الأوروبية الحديثة في التدريب والتعليم، وحرص على متابعة انتظام فرق الجيش التقليدية من السباهية وغيرها، وفصل بين الأمور الإدارية والعسكرية، وشدد على الانتظام في التدريب، ومنع المحسوبية في إعطاء الأراضي لقادة الجيش، واهتم بالبحرية، فاختار لقيادتها رجلًا من أكثر المخلصين له، وهو القبودان (رئيس البحرية) كوچك حسين باشا، وأعطاه مهمة تحديث البحرية.

-وسع السلطان سليم الثالث الديوان، وأضاف وظائف جديدة متخصصة، كما حرص على تحديد عدد الوزراء لكيلا يهدر موارد الدولة، أو ينشأ تعارض بين الإدارات، وحارب الرشوة وبدأ بنفسه فألغى الهدية التي كان يقدمها الوزراء للسلطان عند اختيارهم للوزارة، وأنشأ خزانةً جديدةً لتمويل الإصلاحات، فكانت بمثابة وزارة مالية موازية، وجعل لها مواردها الخاصة لكيلا يتضرر الناس من إنفاق المال على عمليات التطوير والتحديث.

-اهتم بقوات الشرطة، وحرص على متابعتها بدقة، وحفظ الأمن في المدن، وأمر بإعداد قوائم مفصلة للسكان، واهتم بوجود كفيل للعمال الذين يأتون إلى المدن من خارجها، وأجلى من لا يتوفر لهم هذا الكفيل إلى بلادهم الأصلية حتى يمكن ضمان الحفاظ على الأمن في البلد.

-وبينما كان السلطان منشغلا بعمليات الإصلاح حدث أمر غير متوقع، حيث احتلت فرنسا مصر وفلسطين، وهو احتلال من دولةٍ كانت تدعي الصداقة للعثمانيين عدة قرون، وجاء ذلك بعد ثلاث سنواتٍ من تجديد الدولة العثمانية لامتيازات الفرنسيين التجارية، كانت مفاجأةً كبرى للسلطان سليم الثالث؛ فأعلن الحرب عليها في 2 سبتمبر 1798م، وبدأ في إعداد الجيش العثماني لمهمة تحرير مصر.

-طلب نابليون من السفير العثماني أسعد أفندي بدء الحديث عن معاهدة صلح، فوافق السلطان في 9 أكتوبر 1801م على هذه الفكرة متناسيًا للآثار الأليمة للحملة الفرنسية التي انتهت منذ شهرٍ واحدٍ تقريبًا، وانتهى الأمر بعقد معاهدة صلحٍ بين فرنسا والدولة العثمانية في 25 يونيو 1802م عرفت بمعاهدة باريس، وفيها عادت العقود والاتفاقيات والعلاقات بين الدولتين إلى الوضع نفسه الذي كانت عليه قبل الحرب.

-بعد خروج الحملة الفرنسية من مصر في سبتمبر 1801م عادت مصر إلى حكم الدولة العثمانية، وعين خسرو باشا واليًا عليها، وبقيت معه فرقة من الإنكشارية ومن الجيش العثماني، وصارت القوة الوحيدة المناهضة للعثمانيين هي قوة المماليك الذين كانوا يسيطرون على الصعيد تحت قيادة محمد بك الألفي الموالي للإنجليز، وكذلك عثمان بك البرديسي، وظهر لاحقا القائد في الجيش العثماني محمد علي باشا وهو من أصولٍ ألبانية، وكان يقود فرقةً صغيرةً مكونة من 300 جندي ألباني، والذي منحه  خسرو باشا ثقته ورقاه في الجيش، وبعد سلسلة اضطرابات، راسل علماء ووجهاء مصر السلطان سليم الثالث يلتمسون منه تولية محمد علي على مصر، فوافق وأتى الفرمان بتوليته في 9 يوليو 1805م، ومنحه لقب باشا، لينفرد بحكم مصر لاحقا.

-شهدت الدولة تمرد الوالي عثمان بازواند أوغلو بولاية ڤيدين في أقصى غرب بلغاريا عام 1794م، وضم مساحاتٍ شاسعةً إلى حكمه، فحاربته الدولة أعوام 1795م، و1798م، و1800م، ولكنها فشلت في قمعه فتراضت معه على الولاية واستخدمته، ووصل في استقلاله عن الدولة إلى سك العملات باسمه، وإلى إقامة العلاقات الدبلوماسية مع الدول كفرنسا، وروسيا، والنمسا. وانتهت الفتنته بموته عام 1807م.

-شهدت حدود الدولة العثمانية هجمات متكررة من قبل الدولة السعودية الأولى، وكانت البداية في العراق في أبريل 1802م حيث هاجمت مدينة كربلاء وهدمت قباب الأضرحة، واستولت على أموال وهِبات هذه الأضرحة، وقتلت عددًا كبيرًا من السكان، ثم غزت الحجاز واستولت على الطائف في مارس عام 1803م، وفي 30 أبريل من العام نفسه هاجمت مكة، وسيطرت عليها لعدة أشهر ثم تمكنت الدولة العثمانية من استردادها في 6 أغسطس 1803م، ثم هاجمت القوات السعودية البصرة في 1804م ولم تتمكن من احتلالها، وهاجموا المدينة المنورة في 1805م وتمكنوا من أخذها، واستولوا حينها على كل النفائس والمجوهرات المهداة من العثمانيين إلى المسجد النبوي على مدار السنين.

-لم تحض مساعي السلطان لتحديث الجيش برضى قيادات الانكشارية، فثاروا على السلطان وطالبوا بإلغاء جميعِ التحديثات خاصة النظام العسكري الجديد، وقد حصلوا على تأييد بعض العلماء الذين شاركوهم في الاعتراض على هذه التحديث بحجة أنها تقليد للغرب الكافر، فثار الجنود غير النظاميين وأيدتهم الانكشارية، فقتلوا المؤيدين للنظام العسكري الجديد، واضطر السلطان إلى أن يصدر أمرًا بإلغاء النظام العسكري الجديد، ولكن لم يكتفي المتمردون بهذا؛ بل قرروا عزل السلطان، فنودي بعزله، وولوا بعده ابن عمه مصطفى الرابع بن عبد الحميد الأول، وبقي سليم معزولًا مدة عام وشهر، ثم حدثت حاول استعادة الحكم، ولكِن رجال مصطفى الرابع قتلوا السلطان سليم الثالث ظنا منهم أن ذلك قد يخمد التمرد، إلا أن المتمردين ازدادوا غضبًا، وانتهى الأمر بقتل مصطفى الرابع وتولية محمود الثاني.

شارك المقال

مواضيع ذات صلة

أقسام الموقع