ثبات أمير مسلم يرسم نهاية لغزو التتار

ثبات أمير مسلم يرسم نهاية لغزو التتار

قصص واقعية

حاصر المغول عاصمة الخلافة الإسلامية بغداد عام 656 هجرية، فأدرك الأمير محمد بن غازي حاكم إمارة ميفارقين  شمالي حلب، وهو من أحفاد صلاح الدين الأيوبي خطورة الوضع، فدعا لاجتماع حكّام الإمارات المجاورة، الموصل وحلب ودمشق،  فهرب الجميع، وقالوا: لا طاقة لنا بمواجهة النظام العالمي الجديد، وسعى كل منهم للتقرُّب للتتار بالمال والولاء، ولكن حفيد صلاح الدين ثبت وجاهد وقدّم نموذجًا نادرًا في التاريخ، رافضا الخضوع للنظام العالمي التتري.

وبعد سقوط بغداد وتدميرها، جمع الأمير الكامل محمد بن غازي أهل إمارته وذكّرهم بالله وبفرض الجهاد، وجمع حريمه وأولاده وحريم ونساء البلد ووضعهم في قلعة آمد المحصّنة.

على الطرف الآخر، النظام العالمي الجديد بقيادة التتار اشتدّ غضبه من الأمير الكامل محمد بن غازي كيف يجرؤ على هذا الفعل الذي لم يسبقه إليه أحد.

وكان هولاكو خبيثا فأرسل رسولاً عربياً نصرانياً اسمه "قسيس يعقوبي"، ليؤكد لكامل أنّ أرمينيا النصرانية متحالفة مع التتار، الأمير الصالح لم يخضع لما يُحيط به من مؤامرة وتهديد، وكي لا يضعف شعبه، ويرفع روحهم المعنوية، قتل الرسول النصراني؛ ليكون بمنزلة الإعلان الرسمي للحرب على هولاكو، وكنوع من شفاء الصدور للمسلمين، انتقاماً ممن ذبح مليون مسلم في بغداد، ولأن التتار ما احترموا أعرافاً قطّ في حياتهم.

غضب هولاكو وأرسل جيشاً كبيراً، ووضع على رأسه ابنه "أشموط بن هولاكو"، وتوجّه الجيش إلى "ميافارقين" مباشرة، بعد أن فتح له أمير الموصل العميل أرضه للمرور، تطبيقا لميثاقه مع التتار، واتفاقية التحالف الدولي، للقضاء على (الإرهاب).

حاصر التتار "ميافارقين" حصاراً شديداً، وكما هو متوقع، جاءت جيوش مملكتي أرمينيا والكرج النصارى لتحاصر ميافارقين من الناحية الشرقية، وكان هذا الحصار الشرس في شهر رجب سنة 656 هجرية، بعد الانتهاء من تدمير بغداد بحوالي أربعة شهور.

صمدت المدينة الباسلة، وظهرت فيها مقاومة ضارية، وقام الأمير الكامل محمد في شجاعة نادرة يشجّع شعبه على الثبات والجهاد، وكان شعبه معه يجاهد ويرمى التتار بالنبل، وكان من المفترض في هذا الحصار الرهيب الذي ضرب على ميافارقين أن يأتيها المدد من الإمارات الإسلامية الملاصقة لها لكن هذا لم يحدث، لم تتسرب إليها أي أسلحة ولا أطعمة ولا أدوية.

 فقد حافظ الأمراء الخونة  على توقيعهم على ميثاق النظام الدولي الجديد بقيادة القوة الأولى في العالم التتار، ودفعهم الحرص على كراسي الحكم إلى أن يبيعوا دينهم وإخوانهم ، مقابل عرض من الدنيا.

ومع الثبات وطول الحصار  كان هولاكو يُرسل بالرسائل، مؤكداً أنه ما جاء إلى هذه المدينة المسالمة إلا لإزاحة الكامل محمد عن الحكم، أما شعب ميافارقين فليس بيننا وبينه عداء، وإنما نريد أن نتعايش سلمياً بعضنا إلى جوار بعض، وانظروا للبلاد التي استسلمت كيف تعيش بسلام.

في ظل هذه الأوضاع الصعبة ثبت الأمير الأيوبي المسلم، ومعه الشعب حتى اشتدت بهم المجاعة، فأكلوا كل شيء، ولكن لم يستسلموا، رغم خيانة صعبة ممن ينتسبون للإسلام، أمير الموصل بدر الدين لؤلؤ، وأمراء السلاجقة (غرب تركيا)، كيكاوس الثاني وقلج أرسلان الرابع، وأشدها من ابن العم الأيوبي "الناصر يوسف الأيوبي" حاكم حلب ودمشق، وقد طلب الأمير الكامل محمد -رحمه الله- النجدة من الناصر يوسف الأيوبي، فرفض رفضاً قاطعا ً.. فقد باع كل شيء، واشترى ود التتار.. رغم أنه يعلم عندما فعل ذلك أنّ التتار لا عهد لهم ولا أمان، ولكنها شهوة كرسي الحكم الطاغية.. التي جعلته يبيع دينه ويبيع المسلمين للتتار.

وفي ظل هذه الشدة والحصار حدثت خيانة في قلعة آمد، ودخلها التتار، واعتقلوا حريم الأمير وأولاده، وجلبوهم عند أسوار ميافارقين، ووضعوا السيوف على رقابهم، لإرهاب الأمير، ولكنه لم يستسلم، بل قال للتتار: والله ما لكم عندي إلا السيف.

وبعد حصار ثمانية عشر شهراً متصلة من النضال والثبات والجهاد، سقطت ميارفاقين، بعد أن توقّفتْ العمليات أيامًا، ومن شدة رهبة التتار بسبب المقاومة لم ينتبهوا إلا عندما شاهد جنود التتار بعض الصبية يفرّون فقبضوا عليهم، فقالوا لهم أنه لم يعد في المدينة أحد إلا  مرضى وجرحى، فقد اشتدت المجاعة حتى أكل الناس الجثث، فلم يصدق التتار، فدخلوا المدينة من ثغرة وظنوا أن الأمر خدعة، ومن رعبهم ظلوا أسبوعين في أماكنهم لا يتحركون خشية أن يخرج عليهم المجاهدون، ولكن مرّت الأيام فدخلوا، فلم يجدوا إلا مرضى وجرحى، وقد استُشهد حوالى 7000 مجاهدًا، ولم يشعر التتار بذلك، بسبب استمرار الجهاد.

 استباح التتار مدينة ميافارقين الباسلة، واستبيحت حرماتها تماماً، فقد جعلها أشموط بن هولاكو عبرة لكل بلد يقاوم، فقتل السفاح كل سكانها، وحرَّق ديارها، ودمّرها تدميراً، ووجدوا الأمير الكامل محمد -رحمه الله- حيًّا، ولكنه مريض وجريح لا يقوى على الحركة، فاعتقلوه، ليزيد من عذابه، وذهبوا به إلى هولاكو.

واستجمع هولاكو كل كفره وحقده في الانتقام من الأمير البطل الكامل محمد الأيوبي رحمه الله، فأمسك به وقيّده، ثم أخذ يقطّع أطرافه وهو حي، بل إنه أجبره أن يأكل من لحمه.

وظل هولاكو يعذّب الأمير وهو ثابت لايتزحزح، إلى أن أذن الله -عز وجل- للروح المجاهدة أن تصعد إلى بارئها، فقطَع السفاح هولاكو رأسه، وأمر أن يطاف برأسه في كل بلاد الشام، ليكون عبرة لكل المسلمين، وانتهى المطاف بالرأس بعد ذلك إلى دمشق، حيث عُلِّقَ فترةً على أحد أبواب دمشق، وهو باب الفراديس.

لكن صمود الأمير البطل وشعبه، لم يذهب سداً، فبسبب ثباتهم وصمودهم أمام الحصار تأخر هجوم التتار على مصر واستطاع المماليك الاستعداد فكان نصر عين جالوت في 658 هـ بعد سنة ونصف من سقوط بغداد وهي فترة حصار ميافارقين.

عندما  دخل الظاهر بيبرس دمشق  أسرع وأنزل الجثة، وكرّم الأمير محمد بن غازي أشد تكريم، ودفنه في أحد المساجد، والذي عُرِفَ بعد ذلك بمسجد الرأس.

يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء عنه:

كان شابًّا، عاقلاً، شجاعًا، مهيبًا، محسنًا إلى رعيته، مجاهدًا، غازيًا، ديّنًا، تقيًّا، حميد الطريقة.

شارك المقال

مواضيع ذات صلة

أقسام الموقع