عبر قرآنية
﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنْ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنْ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ﴾ الأعراف: 163-166 .
يأمر الله سبحانه رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يسأل اليهود عن هذه الواقعة المعلومة لهم في تاريخ أسلافهم، وهو يواجههم بهذا التاريخ بوصفهم أمة متصلة الأجيال ويذكرهم بعصيانهم القديم، وما جره على فريق منهم من المسخ في الدنيا وما جره عليهم جميعا من كتابة الذل عليهم والغضب أبدا، اللهم إلا الذين يتبعون الرسول النبي، فيرفع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم.
ولا يذكر اسم القرية التي كانت حاضرة البحر فهي معروفة للمخاطبين، فأما الواقعة ذاتها فقد كان أبطالها جماعة من بني إسرائيل يسكنون مدينة ساحلية، وكان بنو إسرائيل قد طلبوا أن يجعل لهم يوم راحة يتخذونه عيدا للعبادة ولا يشتغلون فيه بشؤون المعاش، فجعل لهم السبت.
ثم كان الابتلاء ليربيهم الله ويعلمهم كيف تقوى إرادتهم على المغريات والأطماع وكيف ينهضون بعهودهم حين تصطدم بهذه المغريات والأطماع، وكان ذلك ضروريا لبني إسرائيل الذين تخلخلت شخصياتهم وطباعهم بسبب الذل الذي عاشوا فيه طويلا ولا بد من تحرير الإرادة بعد الذل والعبودية، لتعتاد الصمود والثبات.
فضلا على أن هذا ضروري لكل من يحملون دعوة الله ويؤهلون لأمانة الخلافة في الأرض، وقد كان اختبار الإرادة والاستعلاء على الإغراء هو أول اختبار وجه من قبل إلى آدم وحواء، فلم يصمدا له واستمعا لإغراء الشيطان بشجرة الخلد وملك لا يبلى، ثم ظل هو الاختبار الذي لا بد أن تجتازه كل جماعة قبل أن يأذن الله لها بأمانة الاستخلاف في الأرض، إنما يختلف شكل الابتلاء، ولا تتغير فحواه، ولم يصمد فريق من بني إسرائيل - في هذه المرة - للابتلاء الذي كتبه الله عليهم بسبب ما تكرر قبل ذلك من فسوقهم وانحرافهم، لقد جعلت الحيتان في يوم السبت تتراءى لهم على الساحل، قريبة المأخذ، سهلة الصيد، فتفوتهم وتفلت من أيديهم بسبب حرمة السبت التي قطعوها على أنفسهم، فإذا مضى السبت، وجاءتهم أيام الحل، لم يجدوا الحيتان قريبة ظاهرة، كما كانوا يجدونها يوم الحرم.
فإذا جماعة منهم تهيج مطامعهم أمام هذا الإغراء، فتتهاوى عزائمهم، وينسون عهدهم مع ربهم وميثاقهم، فيحتالون الحيل - على طريقة اليهود - للصيد في يوم السبت، وما أكثر الحيل عند ما يلتوي القلب، وتقل التقوى، ويصبح التعامل مع مجرد النصوص، ويراد التفلت من ظاهر النصوص،.. إن القانون لا تحرسه نصوصه، ولا يحميه حراسه، إنما تحرسه القلوب التقية التي تستقر تقوى الله فيها وخشيته، فتحرس هي القانون وتحميه، وما من قانون تمكن حمايته أن يحتال الناس عليه.
وراح فريق منهم آخر يرى ما يفعلون من الاحتيال على الله، فيحذر الفريق العاصي مغبة احتياله، وينكر عليه ما يزاوله من الاحتيال، بينما مضى فريق ثالث يقول للآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر: ما فائدة ما تزاولونه مع هؤلاء العصاة، وهم لا يرجعون عما هم آخذون فيه؟ وقد كتب الله عليهم الهلاك والعذاب؟.
قالوا: معذرة إلى ربكم، ولعلهم يتقون.. فهو واجب لله نؤديه: واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والتخويف من انتهاك الحرمات، إلى الله عذرنا، ويعلم أن قد أدينا واجبنا. ثم لعل النصح يؤثر في تلك القلوب العاصية فيثير فيها وجدان التقوى.
وهكذا انقسم سكان الحاضرة إلى ثلاث فرق؛ أمة عاصية محتالة. وأمة تقف في وجه المعصية والاحتيال وقفة إيجابية بالإنكار والتوجيه والنصيحة، وأمة تدع المنكر وأهله، وتقف موقف الإنكار السلبي ولا تدفعه بعمل إيجابي، وهي طرائق متعددة من التصور والحركة، تجعل الفرق الثلاث أمما ثلاثا فلما لم يجد النصح، ولم تنفع العظة، وسدر السادرون في غيهم، حقت كلمة الله، وتحققت نذره.
فإذا الذين كانوا ينهون عن السوء في نجوة من السوء، وإذا الأمة العاصية يحل بها العذاب الشديد فأما الفرقة الثالثة فقد سكت النص عنها.. ربما تهوينا لشأنها - وإن كانت لم تؤخذ بالعذاب - إذ إنها قعدت عن الإنكار الإيجابي، ووقفت عند حدود الإنكار السلبي. فاستحقت الإهمال وإن لم تستحق العذاب:
(فلما نسوا ما ذكروا به أنجينا الذين ينهون عن السوء، وأخذنا الذين ظلموا بعذاب بئيس بما كانوا يفسقون. فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم: كونوا قردة خاسئين ..).
المصدر: تسفير الظلال سيد قطب.