استمر في الجلوس عليه لمدة تسع وثلاثين سنة؛ ليُصبح ثاني أطول السلاطين حكمًا بعد سليمان القانون
-ساءت أحوال الدولة في الأيام الأخيرة من حكم السلطان العثماني إبراهيم خان الأول، ونزع الجنود الإنكشارية إلى التدخل في شئون الحكم وعمت الفوضى والقلاقل، وحاول السلطان أن يعيد الأمور إلى نصابها ويقمع حالة الفوضى التي اجتاحت العاصمة استانبول، ويقضي على رؤوس الفتنة من الإنكشاريين الذين تخلوا عن وظيفتهم في الدفاع عن البلاد، وتفرَّغوا لمناهضة السلطان، لكن السلطان لم ينجح في عزمه، وكان الإنكشاريون أسرع منه، فاشتدت ثورتهم التي اندلعت في (18 من رجب 1058هـ = 8 من أغسطس 1648م)، ولم تنته إلا بخلع السلطان وتولية ابنه محمد الرابع.
-جلس السلطان محمد الرابع على عرش الدولة وهو في السابعة من عمره، فقد ولد في (29 من رمضان 1051هـ = 1 من يناير 1642م)، واستمر في الجلوس عليه لمدة تسع وثلاثين سنة؛ ليُصبح ثاني أطول السلاطين حكمًا بعد سليمان القانوني، ولما كان صغيرًا فقد تولت جدته كوسم مهبيكر نيابة السلطنة، وأصبحت مقاليد الأمور في يديها، واستمرت فترة نيابتها ثلاث سنوات، ساءت فيها أحوال الدولة، واستبد الإنكشارية بالحكم، وسيطروا على شئون الدولة، وتدخلوا في تصريف أمورها، ولم يعد لمؤسسات الدولة معهم حول ولا قوة، وقد أطلق المؤرخون على هذه الفترة سلطنة الأغوات.
-السلطانة كوسم حافظت على مكانتها في الدولة العثمانية، ومرت عليها فترات من الضعف لكن فيما كان يتساقط السلاطين من حولها استطاعت أن تبقى حية أطول فترة ممكنة، وأن تحكم الدولة العثمانية طوال 37 عاماً.
-ساءت أحوال الدولة في فترة حكم كوسم، واستبد الانكشارية بالحكم، وسيطروا على شؤون الدولة، وقد أطلق المؤرخون على هذه الفترة سلطنة الأغوات، وإلى جانب انهيار أوضاع الدولة واجهت كوسم النفوذ المتزايد لتورهان سلطان والدة محمد الرابع، التي كان يفترض أن تنال لقب السلطانة الوالدة، لكن كوسم انتزعت هذا اللقب منها، وفي حين كانت كوسم مدعومة من الجنود الانكشاريين، استطاعت تورهان استمالة الخصيان والوزير الأكبر، ومع تعاظم نفوذ تورهان قررت كوسم تنحية محمد الرابع عن العرش، واستبداله بحفيد آخر لها، وخططت لقتل السلطان وأمه، لكن كشف مخططها وتم إحباطه، فقررت تورهان أن تقوم بضربة استباقية، فبعثت مجموعة كبيرة من المسلحين الذين هاجموا كوسم في مخدعها.
-بصعود السلطانة خديجة تورهان إلى منصب نائبة السلطنة انتهت سلطة الأغوات، لكن السلطانة الجديدة بلا خبرة، واستمرت الفوضى في البلاد، وقد احصى بعض الكتاب عدد من تولوا منصب الصدر الأعظم في الفترة من سبتمبر 1651م إلى سبتمبر 1656م فوجدهم أحد عشر رجلًابمتوسط ولاية أقل من خمسة شهورٍ ونصف، استغلَّت البندقية هذه الاضطرابات فقامت بحملةٍ بحرية ناجحة على بحر إيجة، واستطاعت في شهور يونيو، ويوليو، وأغسطس، من عام 1656م أن توقِع عدة هزائم بالأسطول العثماني، وسقطت عدة جزر في يد البنادقة فأغلقت البندقية مضيق الدردنيل، وأدى هذا إلى نقص الطعام بشدة في إسطنبول، مع موجة غلاءٍ عنيفة.
-وجدت السلطانة الشابة ضالتها في محمد باشا كوبريللي، وهو من أصل ألباني، قوى الشكيمة، ورجل دولة من الطراز الأول، فاشترط لنفسه قبل أن يتولى المنصب؛ أن يكون مطلق اليد في مباشرة سلطاته وألا تُغلّ يده، فقبلت السلطانة فباشر عمله في (26 من ذي القعدة 1066هـ = 15 من سبتمبر 1656م)، وأعلن أن السلطان محمد قد بلغ سن الرشد، وانتهت بذلك نيابة السلطانة الوالدة التي دامت خمس سنوات.
-بدأ محمد باشا كوبريللي أعماله بإعادة هيبة الدولة، فضرب على يد الخارجين من الإنكشارية بيد من حديد، وأجبرهم على احترام النظام، والانشغال بعملهم والتفرغ للدفاع عن الدولة وحمايتها باعتبار أن هذا هو عملهم الأساسي ووظيفتهم الأولى، ، ثم هزم البنادقة، وأخذ منهم جزيرة لمنوس وبعض الجزر الأخرى، وفتح الحصار البحري عن الدولة.
-استمرت صدارة محمد كوبريللي خمس سنوات، استردت الدولة عافيتها، وعادت إليها بعض من هيبتها القديمة على الساحة العالمية، وبعد وفاته في سنة (1072هـ = 1661م) أصدر السلطان محمد الرابع أمراً يتولى بموجبه أحمد كوبريللي منصب الصدارة العظمى خلفًا لأبيه، وكان في السادسة والعشرين من عمره، ويعد أصغر من تولى هذا المنصب في تاريخ الدولة العثمانية، وكان عظيم الكفاءة، متعدد المواهب، على دراية واسعة بالسياسة العالمية، أعلن الحرب على النمسا التي انتهزت فرصة انشغال الدولة العثمانية بأمورها الداخلية المضطربة فاعتدت على الحدود، تحرك الصدر الأعظم من أدرنة على رأس جيش يبلغ نحو 120 ألف جندي، مزودين بالمدافع والذخائر والعتاد، حتى وصل إلى قلعة نوهزل الشهيرة، وكانت تقع شمال غرب يودابست، على الشرق من فيينا بنحو 110 كم، ومن براتسلافيا بنحو 80 كم، وكانت بالغة التحصين، فائقة الاستحكامات حتى أصبحت من أقوى القلاع في أوربا، وما إن وصل كوبريللي إلى القلعة حتى ضرب عليها حصارًا قويًا دام سبعة وثلاثين يومًا، اضطرت القلعة بعدها إلى طلب الصلح والاستسلام، فوافق الصدر الأعظم، شريطة جلاء الحامية عن القلعة بغير سلاح ولا ذخيرة، فدخلها في (25 من صفر 1074هـ = 28 من سبتمبر 1683م)، وبعد استسلام هذه القلعة العظيمة استسلمت حوالي 30 قلعة نمساوية، واضطرت النمسا إلى طلب الصلح، ودفعت للدولة العثمانية غرامات حرب رزمية قدرها 200 ألف سكة ذهبية، وأن تبقى كافة القلاع التي فتحتها الجيوش العثمانية تحت سيادتها، وعاد كوبريللي إلى أدرنة مكللا بالنصر في (2 من رمضان 1075هـ = 17 من مارس 1665م).
-كلف السلطان محمد الرابع كوبريللي باستكمال فتح جزيرة كريت التي فتحها السلطان إبراهيم الأول، لكن ظلت قلعة “كانديه” وبعض القلاع بالجزيرة تقاوم العثمانيين بسبب المساعدات التي تتلقاها من بلاد أوربا. تحرك كوبريللي على رأس أسطول بحري إلى جزيرة كريت، وضرب حصارًا حول كانديه في (رمضان 1077هـ = مارس 1667م) ودام الحصار نحو سبعة أشهر صمدت خلالها القلعة ثم عاود الحصار مرة أخرى في (8 من المحرم 1079هـ = 18 من يونيو 1668م) لكنه طال هذه المرة، حتى تجاوز العامين، وفي النهاية تنازلت البندقية عن كانديه بما فيها من مدافع وأسلحة للدولة العثمانية، وأصبحت كريت تابعة للدولة العثمانية، وقضى كوبريللي وقتًا بعد الفتح في إصلاح القلاع والأسوار والأبنية، ثم غادر الجزيرة في (14 من ذي الحجة 1080هـ = 5 من مايو 1670م) بعد أن ظل بها ثلاث سنوات ونصف السنة.
-دخلت بلاد القوقاز جنوبي روسيا في حماية الدولة العثمانية، فلما حاولت بولونيا الاعتداء على بلاد القوقاز استنجدت بالدولة العثمانية التي تحركت على الفور لنجدتها، وأجبرت ملك بولونيا على طلب الصلح.
-خرج السلطان محمد الرابع، وقرة مصطفى باشا الصدر الأعظم الذي تولى المنصب بعد وفاة كوبريللي في (24 من رمضان 1087هـ = 30 من أكتوبر 1676م) من استانبول على رأس حملة هائلة هي الحملة الأولى لسلطان عثماني على روسيا في (8 من ربيع الأول 1089هـ = 30 من مارس 1678م)، حتى بلغت قلعة جهرين في أوكرانيا، فضربت حولها حصارًا، وكانت قلعة محصنة، وكان يدافع عنها جيش روسي ضخم يقدر بمائتي ألف جندي، لكن القلعة سقطت بعد اثنين وثلاثين يومًا، وقتل من الجيش الروسي 20 ألف جندي.
-سير السلطان حملة ثانية على روسيا بعد عامين من حملته الأولى، وانتهت بعقد معاهدة أدرنة بين الدولتين في (22 من المحرم 1092هـ = 11 من فبراير 1681م)، واتفق الطرفان على أن تقسم أوكرانيا بين العثمانيين والروس، على أن يكون القسم الأكبر من البلاد تحت الحكم العثماني، وأن تستمر روسيا في تقديم الضريبة السنوية إلى بلاد القرم التابعة للعثمانيين، وأن تدفع المبالغ المتراكمة عليها خلال سنوات الحرب مرة واحدة.
-كانت الدول الأوربية قد تألبت على الدولة العثمانية وأفزعها ما بلغته من قوة، فأخذت تتحرش بها، وكانت النمسا تقف في مقدمة الدول المناوئة لها، فاتخذت الدولة قرارها بتوجيه ضربة قوية للنمسا حتى تكف يدها عن التدخل في شئون المجر التي كانت خاضعة للدولة العثمانية، وفي (19 من رجب 1094هـ = 14 من يوليو 1683م) وصل الجيش العثماني بقيادة قرة مصطفى باشا إلى فيينا، وضرب عليها حصارًا شديدًا، استمر الحصار شهرين تهدمت خلاله أسوار المدينة المنيعة، وانزعج البابا بعد أن أدرك خطورة الموقف، وتحركت أوربا لنداءاته، وجاءت الإمدادات والمساعدات إلى فيينا، واستطاعت أن تعبر جسر "الدونة" إلى المدينة المحاصرة، وكان الإقدام على هذا العمل خطورة كبيرة لأن الجسر كان تحت سيطرة العثمانيين، لكن المكلف بحماية الجسر لم ينسفه عند مرور هذه القوات وتركها تعبر في سلام إلى المدينة، في واحدة من أكبر الخيانات التي شهدها التاريخ العثماني، ولما نشب القتال انهزم العثمانيون وفكوا حصارهم عن فيينا في (20 من رمضان 1094هـ = 12 من سبتمبر 1683م)، ودقت كنائس فيينا أجراسها فرحة بهذا النصر، وتلقى محمد الرابع أنباء هذه الهزيمة المدوية ولم يفعل شيئًا سوى أن بعث بمن قتل الصدر الأعظم الكفء قرة مصطفى باشا تحت تأثير بعض الوشاة والكارهين للصدر الأعظم وذلك في (6 من المحرم 1095هـ = 25 من ديسمبر 1683م)، فتتابع عدد من الصدور العظام الذين لا يستطيعون تنفيذ واجباتهم التي تقتضيها مقاماتهم، وكان من أثر هذا أن تألبت الدولة الأوربية وتجمعت لمحاربة العثمانيين باسم التحالف المقدس الذي ضم النمسا وبولونيا والبندقية ورهبان مالطة، وروسيا، فأغارت النمسا على المجر واحتلت بعض مدنها، واستولت على قلعة نوهزل، واحتلت جيوش البنادقة أغلب مدن اليونان. حاول محمد الرابع استعادة زمام الأمور وأن يسترد بعض ما فقدته الدولة في المجر، لكنه لم ينجح، وتلقى صدره الأعظم سليمان باشا هزيمة في سهل موهاكس أمام التحالف المقدس في (3 من شوال 1098هـ = 12 من أغسطس 1687م). وكان من نتائج الهزائم المتتابعة التي لحقت بالدولة العثمانية في أواخر عهد محمد الرابع أن ثار الجيش في وجهه، وقام بخلعه في (3 من المحرم 1099هـ = 8 من نوفمبر 1678م) بعد أن دامت سلطنته نحو أربعين سنة، وكانت الدولة في تاريخ خلعه قد فقدت كثيرًا من أراضيها للبنادقة والنمساويين، وتولى بعد أخوه سليمان الثالث، ودخلت الدولة العثمانية في عصر توقف الفتوح.