اعتلى العرش في فترة حرجة من عمر الدولة العثمانية، إذ كانت في حالة حربٍ مع صربيا والجبل الأسود
-ولد عبد الحميد الثاني في إسطنبول سنة 1258 هـ، الموافق21 سبتمبر 1842 وهو ابن السلطان عبد المجيد الأول، استلم الحكم دون توقع منه، كان السلطان المخلوع عبد العزيز في السادسة والأربعين من عمره يوم خلع، وكان ولي عهده الأمير مراد، لذلك عاش طفولته وشبابه، كان محبوسًا في قصره الملكي يتلقى العلوم، والفنون، واللغات، ويمارس الهوايات المحببة له؛ كالنجارة، والموسيقى، والشعر، ويدرس الصوفية ويتعمق فيها، ثم فجأةً صار ولي العهد بعد خلع عمه عبد العزيز، ثم بعد ثلاثة شهورٍ فقط صار سلطان البلاد في 11 شعبان 1293 هـ/31 أغسطس 1876م.
-درس الموسيقى في شبابه ودرس الخط وتعلم اللغتين العربية والفارسية بالإضافة إلى الفرنسية والأدب العثماني والعلوم الإسلامية وتعمق في التصوف، ونظم بعض الأشعار باللغة التركية العثمانية، ودرس على يد علماء عصره بدءًا من عام 1266 هـ/1850 م، وأتم دراسة صحيح البخاري في علم الحديث، وتعلم السياسة والاقتصاد على يد وزير المعارف.
-اعتلى العرش في فترة حرجة من عمر الدولة العثمانية، إذ كانت في حالة حربٍ مع صربيا والجبل الأسود وهما الآن يسعيان للانفصال التام، وفي بلغاريا ثمة ثورة مستمر منذ أبريل 1876م، كذلك في البوسنة والهرسك.
-خزينة الدولة مفلسة، والديون وصلت إلى أكثر من 250 مليون ليرة عثمانية ذهبية، مع الاستمرار في الاقتراض من الدول الأوربية، بضمان الضريبة السنوية التي تدفعها مصر للدولة، لكن الأخيرة غرقت في الديون ولم تعد قادرة على دفع ما عليها لخزينة الدولة العثمانية، ووصل الأمر إلى اضطرار الخديوي إسماعيل إلى بيع حصة مصر في قناة السويس لبريطانيا لسداد جانبٍ من الديون.
-الجيش العثماني في أقصى درجات ضعفه، والفجوة بينه والجيوش المناوئة للدولة العثمانية كبير جداً، إلى جانب تردي للوضع الداخلي للدولة، وبروز التيارات الفكرية المتضاربةـ حيث ظهر التيار القومي الذي يقف في وجه التيار الإسلامي، فقد ظهر دعاة يدعون الأتراك في الدولة إلى التوحد حول عرقيتهم، متأثرين بالأفكار التي انتشرت في أوروبا أعقاب الثورة الفرنسية.
-أرسلت الدول الأوروبية الكبرى لائحة للدولة العثمانية تقضي بتحسين الأحوال المعيشية لرعاياها النصارى، وإجراء إصلاحات في البوسنة والهرسك وبلاد البلغار، وتعيين الحدود مع الجبل الأسود، وبموجبها يراقب سفراء الدول الأوروبية تنفيذ اللائحة، وعندما وصلت اللائحة للسلطان عرضها على مجلس المبعوثان (البرلمان) الذي رفضها في 9 أبريل 1877؛ معتبراً ذلك تدخلاً صريحًا في شؤون الدولة باسم حماية النصارى، فاستغلت روسيا رفض اللائحة واعتبرته سبباً كافياً للحرب، وقطعت علاقاتها السياسية مع الدولة العثمانية وأعلنت الحرب، وفي هذه المرة تركت أوروبا روسيا لتتصرف كيفما تشاء مع العثمانيين، فاحتلت الأفلاق والبغدان وبلغاريا ووصلت أدرنة وأصبحت على بعد 50 كيلومترًا من إسطنبول، كذلك دخلت جيوشها الأناضول، وعادت الصرب والجبل الأسود لتعلن الحرب على الدولة العثمانية، فاضطرت الأخيرة إلى طلب الصلح، وأبرمت معاهدة سان ستيفانو مع روسيا.
-تضمنت معاهدة سان ستيفانو 29 بنداً جلها ضد الدولة العثمانية، إذ أعطت الاستقلال للجبل الأسود، ورومانيا، وصربيا، مع إعطاء الأخيرة بعض الأراضي الجديدة، واتفق على تكوين دولةٍ بلغاريا الكبرى التي ضمت بالإضافة إلى بلغاريا الأصلية؛ شرق الرومللي، وكذلك معظم مقدونيا، وبذلك تصل حدود بلغاريا إلى البحر الأبيض المتوسط، مع الموافقة على حصول بلغاريا الكبرى على استقلال ذاتي إداري، مع دفعها لمبلغٍ من المال كجزيةٍ للدولة العثمانية، ويكون موظفو الدولة في بلغاريا والجند من النصارى فقط، ويخلي العثمانيون جنودهم منها نهائيا، أما روسيا فلن تخرج جنودها إلا بعد عامين.
-نصت المعاهدة على إعطاء البوسنة والهرسك حكمًا ذاتيا. وأخذ الروس بموجبها عدة مدنٍ في آسيا والأناضول؛ منها قارص، وأرداهان، وباطوم، وبايزيد، ومنحت عدة مناطق في اليونان حكمًا ذاتيا، كمنطقتي إبيروس، وتراقيا، بالإضافة إلى كريت. وتعهدت الدولة بحماية الأرمن والنصارى من الأكراد والشركس، وإصلاح أوضاع النصارى في جزيرة كريت. ودفع غرامةً حربية تقترب من 250 مليون ليرة ذهبية إلى روسيا، ويمكن لروسيا أن تتسلم أراضي بدلًا من هذه الغرامة. وستبقى مضايق البوسفور والدردنيل مفتوحةً للسفن التجارية التي تقصد روسيا، وستغلق أمام السفن التابعة لدولٍ محارِبةٍ لروسيا، ومنحت عدة امتيازات إلى القساوسة، والسفير، والقناصل الروس، وكذلك إلى التجار.
-خشيت بريطانيا من أن تسبب هزيمة العثمانيين تغييراً لموازين القوى العالمية لصالح روسيا، فتقدمت بعرض المساعدة العسكرية على الدولة العثمانية، عرض السلطان الأمر أمام البرلمان في 13 فبراير 1878م، ودارت مناقشات حامية، واختلف النواب في الرؤى، ووجه بعضهم النقد للسلطان، الذي سئم من فكرة الشورى، والديموقراطية، وآراء الشعب، لإاخذ قرارا في نفس اليوم 13 فبراير 1878م، القرار بحل البرلمان، وتعطيل الدستور، الذي أعلن عنه في مؤتمر اسطنبول الذي عقد في 23 ديسمبر 1876م، وشاركت فيه فرنسا، والنمسا، وألمانيا، وإيطاليا.
-خشيت الدول الأوربية من تشكل معاهدة سان ستيفانو ضرباً لمصالحها وتفوقا للروس، فدعا الزعيم الألماني بسمارك إلى عقد مؤتمرٍ في برلين للتباحث بشأن المعاهدة لمناقشة الاعتراضات الأوروبية، وافقت روسيا تحت الضغط، ودعيت الدولة العثمانية في 13 يونيو 1878م، ومن أبرز نتائجها، استقلال بلغاريا، وضم البوسنة والهرسك للنمسا، واستقلال الجبل الأسود والصرب، وضم قارْص وأرداهان وباطوم لروسيا، والموافقة على تحسين أوضاع النصارى في جزيرة كريت. تضمنت المعاهدة 64 مادة.
-استغلت بريطانيا ضعف موقف الدولة العثمانية بعد حرب روسيا وطلبها المساعدة من أوروبا، فأقنعت السلطان عبدالحكيد سراً بالموافقة على احتلال قبرص عسكريا في مقابل الدفاع عن الأناضول لو هاجمته روسيا، وافق السلطان على هذا العرض في 4 يونيو 1878م، وبعد مؤتمر برلين احتل الأسطول الإنجليزي قبرص، كان الاتفاق يقضي باستخدام الإنجليز لقبرص كقاعدةٍ عسكرية غرب البحر المتوسط، بينما ستتجه الجزية القبرصية إلى الدولة العثمانية وهو لم يحدث مطلقًا، اعترضت فرنسا على احتلال الإنجليز لقبرص، فوعدتها بريطانيا بغض الطرف عن احتلالها لتونس العثمانية وهو ما تجهزت له، وفي 12 أبريل 1881م اجتازت القوات الفرنسية الحدود الجزائرية التونسية، وفي 11 مايو دخل الفرنسيون قصر حاكم تونس الباي محمد الصادق، ليعلنوا احتلال تونس رسميا، ثم استخدمت بريطانيا قبرص لتكون قاعدةً عسكريةً متقدمةً تمكنها من احتلال مصر العثمانية، وهو ما حدث في 13 سبتمبر 1882م.
- هدأت الهجمة الأوروبية على الدولة العثمانية في أعقاب عام 1885م، بعد انشغال دولها القوية بتقاسم الكعكة الأفريقية، كما انشغلت بريطانيا بمستعمرتها الأهم في الهند؛ الذي ثار ثورته الكبيرة عام 1857م، استغلَّ السلطان عبد الحميد الثاني ذلك ليبدأ حملة إصلاحات داخلية، فعمل على النهوض بالزراعة، وتحديث الصناعة، وتنشيط التجارة، وإصلاح القضاء، وتحسين الخدمات الصحية، و بالبرق، والبريد، وبعض مشاريع المياه، واهتم كذلك بالجيش فاستقدم جنرالات ألمان لتدريبه، كما أرسل بعض البعثات العسكرية، واشترى بعض المعدَّات الحديثة، واهتم بمجال المواصلات، وصلت شبكة السكة الحديدية في عهده إلى 5800 كيلو متر، فيما كانت 1800 كيلو متر فقط في أول عهده، فوصلت إسطنبول بڤيينا عن طريق قطار الشرق السريع في عام 1888م، وأُنشئ الخط المهم بين إسطنبول والحجاز، فوصل إلى المدينة المنورة، وكان المشروع يهدف إلى الوصول إلى مكة، ثم اليمن، لكن السلطان خُلِعَ قبل إتمامه، فتعطَّل المشروع.
-شملت الإصلاحات قطاع التعليم، فقد أنشأ السلطان المدارس المتوسطة، والعليا، والمعاهد الفنية، وأنشأ مدرسة الشئون المالية، ومدرسة الحقوق، ومدرسة الفنون الجميلة، ومدرسة التجارة، ومدرسة الهندسة المدنية، ومدرسة الطب البيطري، ومدرسة الشرطة، ومدرسة الجمارك، ومدرسة الطب، ومدرسة الزراعة، ومدرسة التجارة البحرية، ومدرسة اللغات، ومدرسة المعادن، ومدرسة المعوقين، ودار المعلمات، ومدرسة الفنون النسوية، وافتتح متحف الآثار القديمة، وكذلك المتحف العسكري، كما افتتح مكتبتي يلدز، وبايزيد.
-حرص السلطان على ضغط نفقات الدولة، ووجه قسمًا كبيرًا من دخل الدولة لسداد الديون الخارجية. وفي عام 1881م، بعد ثلاث سنواتٍ من توليه السلطة كانت الديون العثمانية قد تجاوزت 250 مليون ليرة عثمانية، فاستطاع تخفيضها في آخر عهده إلى حوالي 100 ليرة.
-أسس مجموعة من طلاب المدرسة الطبية العسكرية في إسطنبول منظمةً سريةً باسم "جمعية الاتحاد العثماني، تحوَّل اسمها لاحقًا إلى "جمعية الاتحاد والترقي"، وكانت تهدف إلى إعادة الحياة الدستورية التي عطلها السلطان عام 1878م، وقد أدرك المؤسسون أن العقبة الرئيسة في سبيل ما يريدون تحقيقه هو السلطان عبد الحميد الثاني نفسه، فعملوا على إجباره على هذا الأمر مهما كلف الأمر حتى لو بلغ إلى درجة خلعه من الحكم
- اجتازت القوات اليونانية الحدود العثمانية بغية زيادة مساحة المملكة اليونانية على حساب الدولة العثمانية في أبريل 1897م، غلا أنهم فوجئوا بأن الجيش العثماني صار بعد التحديثات الألمانيَّة أقوى بكثيرٍ من العقد الماضي، فحقق انتصارات حاسمة في كل المواقع، واستمرت المعارك بين الطرفين شهرًا، وانتهت بفتح العثمانيين الطريق إلى أثينا، فاستنجدت اليونان بأوروبا وروسيا لوقف الجيش العثماني، استجاب الروس والإنجليز سريعًا وأرسلوا إلى السلطان عبد الحميد الثاني يطلبون وقف القتال، وافق السلطان على وقف القتال في مقابل أن تعيد اليونان للدولة العثمانية إقليم تساليا الذي أخذته بعد مؤتمر إسطنبول عام 1881، وأن تدفع غرامةً حربية. ضغطت بريطانيا في اتجاه أن تعود الأمور إلى ما كانت عليه قبل الحرب، وذلك دون إعادة الإقليم، وتحت الضغط قبلت الدولة العثمانية، ولم تحقق الحرب إلا تغيُّرًا طفيفًا على مستوى الحدود لصالح الدولة العثمانية.
-وقوف السلطان عبد الحميد الثاني في وجه أطماع اليهود في فلسطين من أهم المواقف التي ارتبطت بحقبة حكمه، فنخوة السلطان أجلت الاستيطان الصهيوني في أرض فلسطين. سعى تيودور هرتزل الصحفي اليهودي الذي عانى من ازدراء الأوروبِّيِّين لليهود، لتحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود، ، وكتب في هذا الصدد كتابًا تحت عنوان "دولة اليهود"، نشر في ڤيينا في فبراير 1896م، وقد انتشرت أفكار هرتزل بسرعةٍ في الأوساط اليهودية التي تحولت لاحقا إلى قضية عالمية، تمكن هرتزل في 17 مايو 1901م من تدبير لقاء مع السلطان عبد الحميد الثاني في إسطنبول، وعرض عليه أن يدفع اليهود ثلاثة ملايين جنيهًا إنجليزيًّا إلى الدولة العثمانية، في مقابل السماح لهم بالهجرة إلى فلسطين، وإقامة وطنٍ تابعٍ للدولة العثمانية يدفعون فيه الجزية لها، ولكن السلطان رفض بإصرار، وقال كلمته الشهيرة "انصحوا الدكتور هرتزل بألَّا يتَّخذ خطواتٍ جدِّيَّةً في هذا الموضوع؛ فإنِّي لا أستطيع أن أتخلَّى عن شبرٍ واحدٍ من الأرض، فهي ليست ملك يميني، بل ملك الأمَّة الإسلاميَّة التي جاهدت في سبيلها، وروتها بدمائها. فليحتفظ اليهود بملايينهم، وإذا مُزِّقت دولة الخلافة يومًا فإنهم يستطيعون آنذاك أن يأخذوا فلسطين بلا ثمن، أمَّا وأنا حيٌّ، فإن عمل المبضع في بدني لأهون عليَّ من أن أرى فلسطين قد بُتِرت من الدولة الإسلاميَّة، وهذا أمر لا يكون. إنَّني لا أستطيع الموافقة على تشريح أجسادنا ونحن على قيد الحياة".
-تنامت حركة المعارضة للسلطان عبدالحميد، بفعل عوامل محلية ودولية كثيرة، فعل مجموعة من الضباط في الجيش العثماني على قيادة تمرد في يوليو 1908م، كان أول من أعلن التمرد هو الضابط أحمد نيازي، وهو من أصولٍ ألبانية، وأحد قادة الجيش الثالث المتواجد في مدينة رِسنه بمقدونيا، وهدد بالزحف نحو العاصمة إن لم يعلن السلطان الدستور، انزعج السلطان وأرسل شمسي باشا أرناءوط رئيس الفيلق الثالث للقبض على أحمد نيازي باشا ولكنه قُتِل، ثم أرسل بعده ثلاثين فرقةً من فرق الرديف (الاحتياطي)، ولكنه فوجئ أنها انضمت بكاملها للمتمردين
-كانت الأجواء مضطربةً في الدولة العثمانية، وكان من الطبيعي في ظل أزمةٍ بين السلطان والجيش أن يطمع أعداء الدولة في تحقيق نجاحاتٍ سريعة. فحدثت كارثتان في يومين متتاليين؛ الأولى إعلان بلغاريا الاستقلال التام عن الدولة العثمانية في 5 أكتوبر 1908م، والثانية هي إعلان النمسا عن ضمِّها للبوسنة والهرسك في 6 أكتوبر، وفي يوم 7 أكتوبر أعلنت كريت عن انضمامها إلى اليونان.
-جرت انتخابات عامة في الدولة، وحقق أعضاء الاتحاد والترقي نجاحًا كبيرًا، وصاروا أغلبيةً في البرلمان الجديد، وصار أحمد رضا رئيساً للبرلمان، ثم تحرّكت بعض وحدات الجيش الثالث المتمركز في سالونيك، والمدعومة ببعض المتطوعين، إلى إسطنبول، مكونةً ما عرف بجيش الحركة بقيادة محمود شوكت، فوصلها في 24 أبريل 1909م، وحاصر القصر الحاكم، وأعلن الأحكام العرفية، وسيطر على الوضع تمامًا، ثم اجتمع النواب الاتحاديون وقرروا أن الوقت صار مناسبًا لخلع السلطان، فاستصدروا فتوى بالخلع من شيخ الإسلام محمد ضياء الدين، وأرسلوا وفدًا في 27 أبريل 1909م إلى السلطان عبد الحميد الثاني يُخبرونه بأمر العزل، وولاية ولي العهد الأمير محمد رشاد أخي السلطان الأصغر.