سعت قيادات الانكشارية إلى تكبيل خطوات محمود الثاني من أجل استعادة وضع الدولة العسكري
-السلطان محمود خان الثاني بن عبد الحميد الأول بن أحمد الثالث بن محمد الرابع، ولد سنة 1199هـ، تقلد مقاليد الخلافة العثمانية سنة 1808م، وهو في الثالثة والعشرين من عمره، واستقر عزمه على أن يمضي في طريق الإصلاح الذي سلكه السلطان سليم الثالث.
-كان السلطان فاهمًا لمهمته بشكلٍ عميق، وسعى للإصلاح بجد وهمة، وتميز عصره بإنجازاتٍ كان لها دور في رسم شكل العقود التي تلت حمه، إلا أن الدولة خسرت في زمانه الكثير من الأرض والقوة أمام خصومها، لأسباب تراكمية أدت إلى ضعف الجيوش وفساد نظام الحكم.
-بدأ عهده بإصلاح المنظومة العسكرية، فكلف الصدر الأعظم مصطفى البيرقدار بتنظيم الانكشارية وإصلاح أحوالهم، وإجبارهم على اتباع التنظيمات القديمة الموضوعة منذ عهد السلطان سليمان القانوني، والتي أهملت بمرور الزمن.
-زحف الروس نحو نهر الدانوب فاحتلوا بعض المدن هناك فجرد السلطان جيشاً لردهم، واتفق أثناء ذلك تجريد نابليون بونابرت على روسيا سنة 1812، فاضطر الروس لعقد معاهدة الصلح في 16 مايو مع الباب العالي وسحب جيوشهم عن الحدود لقتال نابليون، وبقي ذلك الصلح مرعيا ثماني سنوات، اهتم السلطان اثناءها في إخماد ما ثار إذ ذاك في ولايتي بغداد وآيدين، وقمع عصيان الوهابيين الذين ظهروا في شبه جزيرة العرب بدعوى دينية حتى تعاظم أمرهم، فبعث السلطان إلى محمد علي باشا والي مصر إذ ذاك فجند عليهم وقطع دابرهم.
-عام 1821 ثار اليونان في المورا، وهاجموا سواحل سوريا والأناضول وغيرهما، فبعث السلطان جيشاً كبيراً لردهم، وبعث إلى محمد علي باشا في مصر فأرسل حملة تحت قيادة ابنه إبراهيم باشا انضمت إلى جيوش الدولة وضيقوا على أهل المورا، فاستنجدت اليونان الدول الأوربية، فتوسطت إنكلترا وفرنسا، فلم يرض السلطان بتوسطهما، فبعثا عمارتيهما وانضمت إليهما العمارة الروسية، وهددوا إبراهيم باشا وعمارته في مينا نافارين من أعمال المورا، وطلبوا إليه أن يكف عن القتال، فأبى إلا أن يكون ذلك بأمر من السلطان، فدخلوا المينا وأطلقوا النار على العمارتين المصرية والعثمانية في 6 يوليو عام 1827، وظهروا عليهما بعد دفاع شديد، فاضطر السلطان محمود لقبول اقتراح الدول المتحدة وأمضى معاهدة تقضي باستقلال اليونان.
-سعى والي ولاية يانينا في ألبانيا، وغرب اليونان، وشمال مقدونيا للانفصال عن الدولة، فأرسل السلطان جيشاً لإنهاء التمرد تحت قيادة خورشيد باشا، فحاصر مركز الولاية بدايةً من أكتوبر 1820م وإلى يناير 1822م، فسقطت المدينة وقتل علي باشا وهو في الثامنة والسبعين من عمره.
-بتحريض من روسيا هاجمت الدولة القاچارية التي حكمت إيران من عام 1789م إلى عام 1925م الدولة العثمانية عام 1821م، فتمكن ثلاثون ألف جندي إيراني من إيقاع الهزيمة بخمسين ألف جندي عثماني في عمق أرضهم عند مدينة إرضروم، ثم اخترقوا العراق، وقصدوا بغداد لكنهم لم يصلوها بفعل الأوبئة وهجمات القبائل المحلية، ثم توصل الطرفان في معاهدة إرضروم عام 1823م على عودة الوضع إلى ما كان قد تصالح عليه الطرفان في معاهدة قصر شيرين عام 1639م.
-سعت قيادات الانكشارية إلى تكبيل خطوات محمود الثاني من أجل استعادة وضع الدولة العسكري، فأخذ السلطان قرارًا في بالتخلُّص منهم، فعقد اجتماعًا موسعًا في 25 مايو 1826م، شرح فيه الوضع الذي آلت إليه الدولة، وتناول فيه الخسائر التي مُنِيَ بها الجيش في الآونة الأخيرة، وأعلن عن قراره بتكوين جيشٍ نظامي جديد، واستصدر فتوى من شيخ الإسلام قاضي زادة طاهر أفندي بمعاقبة كل مَنْ يقف أمام هذا الإصلاح، ثم رتب السلطان عدة لقاءات مع بعض كبار رجال الجيش والبحرية الذين يطمئن إلى ولائهم له، وأمرهم بالاستعداد لمواجهة الإنكشارية في حال تمردهم، وهو ما حدث في يوم 14 يونيو، عام 1826م فقامت قوَّات المدفعية الموالية للسلطان بقصف ثكنات الإنكشارية، فقتل من الإنكشارية ستة آلاف، اقتحمت القوات العثمانية ثكناتهم ليقودوا عشرين ألفًا آخرين إلى النفي، بينما سرح البقية، وألغى السلطان تشكيلات الإنكشارية من الجيش العثماني تمامًا، مع أنها كانت قد وصلت في عام 1826م إلى 135 ألف جندي.
-كانت فرنسا تريد منذ زمن الحصول على مركز ثابت في البحر المتوسط لتنافس به البحرية العسكرية الإنجليزية، خاصة بعد احتلال بريطانيا لجبل طارق في إسبانيا عام 1713م، ولجزيرة مالطة عام 1813م،و كانت تريد تأمين تجارتها في البحر المتوسط، أرسلت فرنسا عام 1830م أسطولًا كبيرًا من ستمائة سفينة، يحمل 34 ألف مقاتل من الجيوش البحرية والبرية لاحتلال الجزائر، وقاموا بإنزالٍ عسكري في سيدي فروخ، على بعد سبعةٍ وعشرين كيلو مترًا غرب مدينة الجزائر ، ثم انتصروا واحتلوا قلعة سلطانية قلعة سي أمام مدينة الجزائر التي تم احتلاها لاحقاً، و هذا هو الخروج الرسمي للجزائر من حكم العثمانيين.
-بعد أن أحكم الوالي محمد علي باشا قبضته على مصر، سعى للحصول على حكم الشام، ولكن السلطان كان يخشى من تنامي قوته، فقرر محمد علي غزو الشام عسكريا، وكان السبب المعل، والحجة إيواء والي عكا عبد الله باشا لستة آلاف مصري هاربين من الجندية والضرائب، ورفضه إعادتهم، وهي حجة واهية لأن الفلاحين لم يهربوا إلى دولةٍ أجنبية إنما فرُّوا من ولايةٍ إلى ولايةٍ في الدولة العثمانية،
-أعلن السلطان رسميا عصيان محمد علي باشا، وأمر محمد باشا والي حلب بالاستعداد لحربه في موقعةٍ فاصلة، الذي أمر بدوره حاكم طرابلس عثمان باشا بالتوجه لحرب الجيش المصري في أبريل 1832، التقى مع الجيش العثماني جنوب حمص فحدثت الهزيمة بسرعةٍ للعثمانيين، ثم جهَّز السلطان جيشًا من 60 ألف مقاتل بقيادة رئيس الأركان العثماني حسين باشا، الذي توجه مسرعًا إلى الشام. التقى الجيشان عند حمص في 8 يوليو 1832م، وللمرة الثانية تواليًا حقق الجيش المصري انتصارًا حاسمًا تراجع معه الجيش العثماني خارج الشام كلها، جهز السلطان جيشه الأخير من 53ألف مقاتل، تحت قيادة الصدر الأعظم رشيد باشا، والتقى الجيشان في 21 ديسمبر 1832م عند مدينة قونية فحقق الجيش المصري انتصارًا ساحقًا على الجيش العثماني، وأسر الصدر الأعظم رشيد باشا، كما أسر عشرة آلاف جندي عثماني، بالإضافة إلى ثلاثة آلاف قتيل، ولم يفقد الجيش المصري سوى 262 جنديا، وسار الجيش المصري باتجاه العاصمة اسطنبول فوصل إلى كوتاهية واحتلها، وصار على بعد أقل من 300 كيلو متر منها وليس بينها وبينه جيش، سعى السلطان للتوصل الى حل دبلوماسي مع محمد علي باشا، فأرسل له خليل باشا قائد البحرية لعرض الحل السلمي، كان العرض يتضمن إعطاء محمد علي باشا ولايات القدس، ونابلس، وعكا، وطرابلس ومعظم لبنان، في مقابل الانسحاب من الأناضول، وانهاء الحرب، وهو عرض لم يرضي محمد علي باشا بعد الانتصارات التي حققها جيشه، وبعد أن طلب السلطان العون من الروس، وتدخل الفرنسيين والبريطانيين، رضخ لعرض مقدم من محمد علي باشا وفي 6 مايو 1833م وأصدر فرمانًا عرف باتفاق سلام كوتاهية، أعطى فيه محمد علي باشا ولاية مصر، وكريت، والشام كلها، والحجاز، وكذلك ولاية أضنة.
- بعد هذه الهزائم المدمرة هدأت الأمور في الدولة العثمانية لمدة ست سنوات ما بين عامي 1833-1839م، واتجه السلطان محمود إلى إعادة بناء دولته، المكبلة بغراماتٍ حربية بسبب معاركها مع روسيا، وكُبِّلت كذلك بسحق أسطولها في ناڤارين، ثم كُبِّلت أخيرًا بتدمير جيشها بمدافع الجيش المصري، فحاول بعد التخلُّص من الإنكشارية أن يبني فرقًا عسكرية تأخذ بالنظم الحديثة؛ فاهتم أولًا بفرق الخيالة والمشاة، ثم ما لبث أن أدخل التطوير السريع على فرق المدفعية، وجعلها على نسق الجيش البروسي، كما وضع على رأس الخيالة قائدًا إيطاليًّا اسمه كالوسو الذي نسقها على النمط الفرنسي، وعمل نظام التجنيد، وجعل مدة التجنيد 12 سنة، وأنشأ الكثير من المدارس الابتدائية لتعليم اللغة التركيَّة، وقراءة القرآن، ومبادئ اللغة العربية، وجعل التعليم الابتدائي إلزاميا للمرة الأولى في تاريخ الدولة العثمانية، ثم أسس المجلس الأعلى للقضاء، وكانت مهمته إعداد القوانين.
-لم يكن السلطان محمود الثاني راضيًا عن نتيجة معاركه السابقة مع محمد علي باشا، وكان ينتظر الفرصة للتراجع عن الاتفاق الذي سلم فيه الشام له، فوقعت المواجهة العسكرية الثانية مع إبراهيم محمد علي باشا المتمركز في الشام، في ربيع 1839م حرك السلطان جيشه بشكلٍ صريحٍ إلى الحدود الجديدة، وأمر الوالي المصري ابنه بعدم البدء بالقتال، والحرص على عدم الظهور بمظهر المعتدي، ولم يكترث الجيش العثماني بالبحث عن سببٍ قانونيٍّ لمخالفة اتفاق كوتاهية، اقتحم الجيش بقيادة حافظ باشا الأرض التابعة للمصريين، فتقدَّم إبراهيم باشا بجيشه؛ ليلتقي الجيشان في 24 يونيو 1839م عند مدينة نصيبين على بعد مائة كيلو متر شمال شرق حلب، انتصر الجيش المصري انتصارًا ساحقًا وكاد الجيش العثماني أن يفنى في أرض القتال، وأُسِر 15 ألف جندي، وغنم المصريون من مدافع الجيش العثماني 166 مدفعًا، و20 ألف بندقيَّة، وصار الطريق من جديد إلى إسطنبول مفتوحًا، في هذه الاثناء توجه الأسطول العثماني بكامله إلى الإسكندرية ليضع نفسه مختارًا رهن إشارة محمد علي باشا.
-لم يسمع السلطان خبر الهزيمة الجديدة لجيشه، إذ وافته المنية في أول يوليو 1839م، بعد المعركة بأسبوعٍ واحد، عن عمرٍ قارب 54 سنة.