السلطان عبد العزيز الأول وبداية التحول نحو الحكم المدني

السلطان عبد العزيز الأول وبداية التحول نحو الحكم المدني

كان عهده من أشد الحقب في التاريخ العثماني اضطراباً، لكثرة الثورات والتمردات

-هو ابن السلطان محمود الثاني، وأخو السلطان عبد المجيد الأول، وصل إلى عرش السلطنة وهو في الحادية والثلاثين من عمره، بعد وفاة شقيقه عبد المجيد الأول في 25 يونيو 1861م.

-كان عهده من أشد الحقب في التاريخ العثماني اضطراباً، لكثرة الثورات والتمردات، وتعدد محاولات الانفصال عن الدولة، فيما كانت علاقات الدولة الخارجية مستقرة؛ فلم تحدث في صدامات أو حروب مع القوى العالمية.

-غير السلطان عبد العزيز الصدر الأعظم 17 مرة في فترة حكمه التي وصلت إلى خمس عشرة عاماً، هذا يعني أن متوسِّط فترة ولاية الواحد كانت أقل من عام، اشتهر منهم اثنان كان لهما دور كبير في صياغة القوانين والإصلاحات، هما محمد فؤاد باشا، الذي شغل منصب الصدر الأعظم مرتين في الفترة من 1861م إلى 1866م، ومحمد عالي باشا، الذي شغل المنصب عدَّة مرَّات، وكان أطولها من 1867م إلى 1871م.

-السلطان عبد العزيز  هو السلطان الوحيد في الدولة العثمانية الذي سافر بنفسه للدول الأوروبية للاطلاع على نظمهم، والتواصل القوي مع قياداتهم، وقد زار في عام 1867م مدن لندن، وباريس، وڤيينا، وفي المقابل استقبل في إسطنبول عام 1869م الإمبراطورة أوچيني، زوجة الإمبراطور الفرنسي نابليون الثالث، وكذلك أمير ويلز إدوارد، الذي سيُصبح ملك إنجلترا لاحقًا تحت اسم إدوارد السابع، وفرانز چوزيف إمبراطور النمسا، كما زار مصر عام 1863م في عهد الخديوي إسماعيل.

-صدرت في عهده مجلة الأحكام العدلية عام 1869م، وهي تعادل الآن القانون المدني، وقانون الأحوال الشخصية، وقد نظمت في ستة عشر مجلدا، صدر الأخير منها في عام 1876م، وقد استُنْبِطت فيها القوانين من الفقه الحنفي، اتسمت بالمعاصرة وإمكانية تطبيق أحكامها في المحاكم المدنية. عمل على تأليفها فريق كبير من العلماء بقيادة العالـِم، والقانوني، والمؤرَّخ التركي الكبير أحمد جودت باشا.

-صدر في عهد السلطان عبد العزيز عدة قوانين تهدف إلى تنظيم حياة الشعب العثماني، منها قانون البنك العثماني في 1861م، وقوانين التجارة البحرية في 1863م، وقانون الأحوال الشخصية الخاص باليهود في 1864م، وقانون الولايات في السنة نفسها، وقانون السماح للأجانب بتملك العقارات في الدولة العثمانية عام 1867م، وقانون الجنسية العثمانية في 1868م، وقانون المحاكم النظامية في 1869م، ثم صدرت حزمة كبيرة من القوانين في عام 1874م شكلت أساسا للدستور العثماني لاحقًا، وقد نصَّت هذه القوانين على الفصل بين السلطة التنفيذية والقضائية، واعتبار أموال جميع العثمانيين وأعراضهم مصونة، والتأكيد على المساواة بين جميع رعايا الدولة. كما صدر قانون إعادة تنظيم القضاء، ونقل المحاكم التجاريَّة إلى اختصاص وزارة العدل في عام 1875م.

-تم إنشاء مجلس خاص بالشورى "شورى دولت" عام 1868م، الذي تميز بطابعٍ شبه دستوري، وشملت اختصاصاته إعداد مشاريع القوانين للدولة، وإبداء الرأي للوزارات بالمسائل الخاصة بتطبيق القوانين، كما كان محكمة تنظر في القضايا الإدارية، وتحاكِم الموظفين المتَّهمين بالانحراف، ويُعتبر هذا المجلس هو النواة الفعلية لمجلس النواب لاحقًا.

-وصل إسماعيل باشا وهو حفيد محمد علي باشا من ابنه إبراهيم باشا، إلى حكم مصر عام 1863م، نشأت صداقة بين السلطان عبد العزيز والوالي إسماعيل باشا، وتبادلا الزيارات في إسطنبول والقاهرة؛ فقد زار السلطانُ مصر عام 1863م، ورد إسماعيل باشا الزيارة إلى إسطنبول عام 1867م، وفي هذه الزيارة الأخيرة وافق السلطان على الطلب المتكرِّر الذي كان يحرص عليه ولاة مصر، وهو تحويلها إلى «خديويَّة» -أي إمارة شبه مستقلة، وذلك في سبيل زيادة الضريبة السنوية التي تدفعها مصر إلى الدولة العثمانية، هذه الاستقلاليَّة ستُعطي مصر مرونةً أكبر في تحديث قوَّتها، وتحسين مستوى معيشتها، والمنافسة بشكلٍ قويٍّ على الساحة الإقليمية.

-تمتعت تونس بالحكم الذاتي منذ ظهور الأسرة الحسينية عام 1705م، وفي عام 1871م أصدر السلطان عبد العزيز فرمانا يقنن فيه الحكم الذاتي التوارثي لتونس، ويضيف إليه امتيازاتٍ أخرى، لقطع الطريق على فرنسا في احتلال تونس كما فعلت في الجزائر. مقابل إرسال تونس لجنودٍ عند الحاجة.

-بسبب الاضطراباتٍ الداخلية في اليمن، وخلافاتٍ بين الأئمة الزيدية، وجدت الدولة العثمانية الفرصة عام 1872م لإعادتها إلى تبعيتها، وكانت سيطرة الدولة على المدن دون القرى التي ظلت تحت سيطرة القبائل اليمنية.

-بدخول روسيا في المعادلات السياسية للمنطقة خلال القرن الثامن عشر الميلادي؛ بدأت بتغذية الروح الانفصالية عند الولايات العثمانية الأرثوذكسيَّة، و في عام 1860م وصل إلى حكم الجبل الأسود الأمير نيكولا الأول، وكانت عنده ميول انفصالية عن الدولة العثمانية، فاستغل قيام ثورة في الهرسك عام 1861 ودعمها، ثم أعلن الانفصال، اضطرَّت الدولة العثمانية إلى إرسال جيشٍ بقيادة عمر باشا لقمع الثورة ورد الجبل الأسود، فدارت حرب استمرت أكثر من سنة، وانتهت بانتصار العثمانيين، وعقد بعد الحرب اتفاق سلامٍ في 31 أغسطس 1862م عُرِف بمؤتمر سكوتاري في ألبانيا، وعلى الرغم من انتصار العثمانيين فإنهم أقرُّوا الأمير نيكولا واليًا على الجبل بحكم ذاتي، بشرط السماح للدولة العثمانية ببناء القلاع التي تريدها داخل الإمارة.

-في أعقاب اندلاع ثورة الجبل الأسود وجه العثمانيون جيشا إلى صربيا بهدف ضبط الأمن، فوقعت عدة مشاجرات بين الصرب وهذا الجيش ما لبثت أن تحولت إلى مواجهاتٍ دامية، بلغت ذروتها في صيف 1862، واضطر الجيش العثماني إلى قصف بلجراد، تدخلت الدول الأوروبية، وضغطت على السلطان عبد العزيز، الذي قَبِل في 6 سبتمبر 1862م بتخفيض عدد القلاع العثمانية في صربيا من ستّ إلى أربع مع احتفاظه بقلعة بلجراد، وتعهد بعدم السماح للقادة العثمانيين بالتدخل في الشئون الداخليَّة للإدارة مطلقًا، ثم تجدَّدت ثورة الصرب عام 1867م، ولم تتمكن الدولة العثمانية من إرسال جيشٍ تحت ضغط الأزمة المالية، فقبلت بالتخلّي عن القلاع الأربع المتبقية في صربيا وجلاء كافة القوات العثمانية عنها، فكانت هذه الخطوة قبل الأخيرة للاستقلال التام لصربيا عن الدولة العثمانية.

- اندلعت ثورة أهالي جزيرة ثورة كريت وهم في الغالب من اليونان الأرثوذكس، مطالبين بالانضمام إلى مملكة اليونان عام 1866م، فشلت الدولة العثمانية في إقناع أهل الجزيرة بالانصياع للدولة، فاضطرت إلى إرسال جيشين كبيرين أحدهما عثماني بقيادة عمر باشا، والآخر أوفده الخديوي إسماعيل من مصر، فتمكن الجيشان من إخضاع الثورة.

 -توحدت إمارتا الإفلاق والبغدان في كيانٍ واحدٍ تحت زعامة الأمير ألكسندر چون كوزا عام 1859م، خلافاً لمعاهدة باريس 1856م، ومع ذلك قبل السلطان في 4 ديسمبر 1861م بهذه الوحدة، وفي 23 ديسمبر 1861م تكونت حكومة واحدة للإمارتين، ثم برلمان واحد في 4 يناير 1862م، وأُطلِق اسم رومانيا على الكيان الجديد، وإعلان بوخارست عاصمة له.

-رغم أن إقليمي البوسنة والهرسك من الأغلبية المسلمة فإنهما كغيرهما من أقاليم البلقان شهدا ثوراتٍ عنيفةً بغية الخروج من التبعيَّة العثمانية، اضطر السلطان عبد العزيز في أكتوبر وديسمبر 1875م إلى إصدار فرماناتٍ تهدف إلى تسكين الشعب في البوسنة والهرسك، وكانت تتضمَّن تخفيضًا في الضرائب، وفصلًا للسلطة القضائيَّة عن التنفيذيَّة، وتعيين قضاةٍ من السكان بالانتخاب، والمساواة بين المسلمين والنصارى، وتشكيل لجان لمراقبة الأوضاع، ومع ذلك لم تتمكن هذه التسهيلات من تهدئة السكان، الذين استمرُّوا في ثورتهم إلى آخر عهد السلطان عبد العزيز، فتدخلت الحكومة النمساوية بقوة، وكأنها حامية لحقوق البوسنة فقدم وزير خارجيتها چيولا أندراسي مذكرةً مطولة فيها عدد من الإصلاحات المطلوبة في البوسنة والهرسك، تشمل بنودًا في الحرّيات الدينية، وفي نظام الضرائب، وآليات تحسين الزراعة، وطرق إنفاق الأموال المحصلة من الشعب البوسني، وقد قبلت الحكومة العثمانية بعض هذه البنود ورفضت أخرى، ولكن في كل الأحوال لم تهدأ الثورة إلى آخر عهد السلطان عبد العزيز.

-خرج طلاب المعاهد الشرعية بمظاهرة حاشدة بلغت ستة آلاف طالب في أوائل مايو 1876م، تنادي بإسقاط الصدر الأعظم محمود نديم باشا، وتعيين مدحت باشا بدلًا منه، كما نادت المظاهرة بعزل شيخ الإسلام حسن فهمي أفندي، خشي السلطان من تحول المظاهرة إلى العنف المسلح، عزل الصدرَالأعظم، لكنه ولى مكانه محمد رشدي باشا، وليس مدحت باشا، وعزل شيخ الإسلام وعين مكانه خير الله أفندي، ثم تشكل حزب من السياسيين والعسكريين يرى أن انفجار الشعب حتمي؛ فإفلاس الدولة، واضطرابات البلقان، وتدخل الدول الأجنبيَّة، وعدم كفاية السلطان. كلُّ ذلك سيقود إلى نتائج وخيمة على الدولة، وكان الحل الذي يراه هؤلاء هو عزل السلطان، والإتيان بسلطان جديد قابل بالحياة الدستورية، وإعادة بناء الدولة وَفق المعايير الحديثة، ضم الحزب الراغب في خلع السلطان عددًا من الشخصيات المؤثرة في الدولة، مثل مدحت باشا الصدر الأعظم السابق، وصاحب القبول الشعبي الكبير، وحسين عوني باشا وزير الحربية، ومحمد رشدي باشا الصدر الأعظم الجديد، وسليمان باشا رئيس المدرسة الحربية، وقيصرلي أحمد باشا قائد البحرية، وأحمد رضا باشا وزير المالية، استصدر هؤلاء الوزراء وقادة الجيش فتوى من شيخ الإسلام خير الله أفندي بوجوب خلع السلطان لعجزه عن القيام بمهام الدولة، وسُيطِر على محاور مدينة إسطنبول، وبعد مناوشات محدودة مع حرس السلطان وُصِل إليه، وقراءة بيان الخلع عليه، وكان ذلك صبيحة 30 مايو 1876م، ولم يقاوم السلطان فخلع بهدوء، وأتي الوزراء بولي العهد الأمير مراد بن عبد المجيد الأول، وهو ابن أخي السلطان عبد العزيز، وأبلغوه بالتطور الجديد، وبعد خمسة أيام من الخلع وجِد السلطان عبد العزيز ميتًا في حجرة قصره، وقد قُطِعَت أوردة ذراعيه بمقص.

شارك المقال

مواضيع ذات صلة

أقسام الموقع