لم يخلو عهد السلطان من مساعي إصلاح فقد شهدت الدولة نهضة في العلوم والمعارف
-عبد المجيد الأول بن محمود الثاني بن عبد الحميد الأول بن أحمد الثالث بن محمد الرابع، ولد سنة 1237هـ الموافق 1823م، وتوفي سنة 1277هـ الموافق 1861م، تولى السلطنة بعد أبيه محمود الثاني سنة 1255هـ وله من العمر 16 عامًا.
-سلّم قائد البحرية العثماني أحمد باشا في أول عهده الأسطول البحري إلى محمد على باشا بمصر، فخشيت الدول الأوربية أن يتقدم محمد على ويحتل استانبول، فعقدوا اتفاقية لندن 1845م للحد من نفوذ محمد علي ولتتيح لهم التدخل.
-اجتمع ممثلون عن خمس دول هي؛ بريطانيا، وفرنسا، وروسيا، وبروسيا، والنمسا، وبعد مداولاتٍ وصلوا إلى كتابة مذكرة قدمت إلى السلطان عبد المجيد الأول في يوليو 1839م، يطلبون منه بشكلٍ صريحٍ عدم أخذ قراراتٍ في المسألة المصرية إلا بالرجوع إليهم، وفي المقابل سيقومون هم بالتوسط بينه وبين محمد علي في حل المشكلة، وبموافقته على المقترح أصبحت الدولة العثمانية تحت وصاية الدول الخمس، وبالتالي فقدت استقلالها، خاصةً أنها بلا جيشٍ أو أسطول بحري.
-بعد عام من المفاوضات وفي يوليو 1840م، اتفقت بريطانيا، وروسيا، وبروسيا، والنمسا، بعد إقصاء فرنسا على الضغط على محمد علي باشا للموافقة على معاهدة لندن، والتي نصت على ما يلي؛ يكون لمحمد علي وخلفائه حكم مصر الوراثي أبدًا، ويكون له مدة حياته فقط حكم فلسطين، بما فيها مدينة عكا، بشرط أن يقبل ذلك في مدة لا تتجاوز عشرة أيامٍ من تاريخ تبليغه القرار، وأن يشفع قبوله بإخلاء جزيرة كريت وبلاد العرب، وإقليم أضنة، وسائر الشام عدا ولاية عكا، وأن يعيد الى الدولة العثمانية أسطولها، اذا لم يقبل محمد هذا القرار في مدة عشرة أيام يحرم من ولاية عكا، ويمهل محمد عشرة أيامٍ أخرى لقبول الحكم الوراثي لمصر وحدها، فاذا انقضت هذه المهلة دون قبول تلك الشروط كان للسلطان العثماني الحق في حرمانه من ولاية مصر ، ويدفع محمد علي باشا جزيةً سنوية إلى الباب العالي تتحدد نسبتها حسب البلاد التي ستؤول إليه إدارتها، وتسري في مصر وعكا القوانين العثمانية، وتعتبر القوات مصر البرية والبحرية جزءًا من قوات الدولة العثمانية، وأخيراً يتكفل الحلفاء في حالة رفض محمد علي باشا لتلك الشروط بتنفيذها بالقوة.
-بعد رفض محمد علي المعاهدة، تحركت بريطانيا عسكريا بعد انتهاء المهلة مباشرة، وقامت باحتلال بيروت وعكا، وسقطت في أيديهم صور، وصيدا، وحيفا، ويافا في أكتوبر 1840م، واشتركت الدولة العثمانية في هذه الحرب عبر تأليب الشعب الشامي على الثورة ضد محمد علي، فاضطر الأخير للرضوخ لقرار العزل ليجنب البلاد الغزو الإنجليزي، وطلب بقائه على رأس ولاية مصر ، فقبلت بريطانيا بعودة ذلك، وأبلغت السلطان عبد المجيد بموافقتها، فأعاده واليا على مصر، وبذلك أصبح السلطان عبدالمجيد ألعوبة في أيدي القوى الأوروبية.
-لم يخلو عهد السلطان عبدالمجيد من مساعي إصلاح الدولة، فقد أدخل التنظيمات الحديثة، وشهدت الدولة نهضة في العلوم والمعارف، واتسعت دائرة التّجارة، وشيدت الكثير من المباني الفاخرة، ومدت في عهده أسلاك الهاتف، وقضبان السكك الحديدية.
-اعتبر المؤرخون الاصلاحات التي حدثت في الدولة بداية تغريب الخلافة العثمانية، فقد استغل بعض الوزراء المتأثرين بالثقافة الغربية صغر سن السلطان، لإِكمال ما بدأه والده الرَّاحل من إِصلاحات على الطَّريقة الأوربيَّة، والتَّمادي في استحداث الوسائل الغربيَّة، ومن هؤلاء الوزراء مصطفى رشيد باشا الذي كان سفيراً للدولة في لندن و باريس، ووصل إِلى منصب وزير الخارجية في أواخر عهد السُّلطان محمود الثاني، وكانت باكورة إِصلاحاته استصدار مرسومٍ من السلطان عرف (بخط شريف كلخانة) أي المرسوم المتوج بخط السلطان الذي صدر عن سراي الزهر عام 1839م، فبدأ عهد جديد يسمى عهد التنظيمات الخيرية العثمانية، وهو اصطلاح يعني تنظيم شؤون الدولة وفق المنهج الغربي، وتم استبعاد العمل بالشريعة الإِسلامية، وبدأت الدَّولة في التقنين، وإِقامة المؤسسات.
-لم يلق الخط الشريف ترحيباً، أو تأييداً من الرأي العام العثماني المسلم؛ فأعلن العلماء استنكارهم؛ وتكفيرهم لـرشيد باشا، واعتبروه منافياً للقرآن الكريم في مجمله، وبخاصةٍ في مساواته المسيحيين بالمسلمين، ورأوا: أن ذلك ـ وبغض النظر عن النواحي الدينية ـ سيؤدي إِلى إثارة القلاقل بين رعايا السلطان؛ وحينما رأى المسلمون: أن الدولة تساوي بهم النصارى، واليهود، وتستبدل بالشريعة قوانين الغرب، وتخلع الأزياء القديمة لتتخذ زي النصارى، وأحسوا كذلك: أن حكومة رشيد لا تكاد تأتي أمراً إِلا راعت فيه خاطر النصارى، وحرصت ألا تمسهم بأذى، أو تنالهم بضيم؛ نفروا من ذلك نفوراً عظيماً، ولم يجد السُّلطان ورجال دولته من بد في إِسقاطه، وعزله أمام مظاهر السخط الشعبي، وخوفهم من وثوب المسلمين، وثورتهم.
-عزل رشيد باشا لم يؤد إِلى وقف حركة التغريب واستقدام المزيد من الأنظمة والقوانين من الغرب بعد أن مُهد لها الطريق، وفتحت لها الأبواب، ومع أن هذه المعارضة لرشيد باشا، ودستوره قد نجحت في إِقصائه سنة 1841م، إِلا أنه عاد بعد أربع سنوات في عام 1845م تسانده مجموعة من أعضاء المحافل الماسونية الذين ركزوا في طريق التحوّل العلماني، وعاد بعد ذلك ليتولى الصدارة العظمى سنة 1846 م، وعزل منها سنة 1858م.
-اندلعت حرب القرم نتيجة الخلاف حول رعاية وحماية كنيسة القيامة وسائر المقدسات المسحية في القدس؛ فبموجب الامتيازات والاتفاقيات العثمانية تتولى فرنسا والكنيسة الكاثوليكية مهام الحماية والرعاية في الأماكن المقدسة؛ غير أن ما طرأ في فوضى في فرنسا إبان الجمهورية الثانية، مكن روسيا والكنيسة الأرثوذكسية من إدارة قسم من الأملاك بحكم الأمر الواقع، وحين غدا نابليون الثالث امبراطورًا على فرنسا، طالب بالامتيازات القديمة وأقر السلطان له بالأمر في 6 فبراير 1852، ما أثار اعتراض روسيا. ومع انسداد أفق حل سياسي، احتلت ولايتي الأفلاق والبغدان، وهما ولايتين عثمانيتين في أوروبا الشرقية ذاتا أغلبية مسيحية وأرثوذكسية؛ فبدأت الاشتباكات الروسية العثمانية في 3 نوفمبر 1853 وتزامنًا سيطر العثمانيون على قلعة القديس نيكولا في الجانب الروسي من الحدود القفقاسية، ثم تمكنت روسيا من تدمير الأسطول العثماني في واقعة سينوب يوم 30 سبتمبر 1853 عن آخره تقريبًا، و في 12 مارس 1854م أبرم العثمانيون اتفاق الدفاع المشترك مع فرنسا وانكلترا، وفي 27 مارس 1854 أعلن نابليون الثالث الحرب رسميًا، ثم في 10 أبريل أعلنتها الملكة فيكتوريا، تركزت المعارك في البحر الأسود والقوقاز، وتمكن الروس من احتلال فارص، والحلفاء من احتلال سيفاستوبول، وبعد نحو عامين من المعارك أقرت اتفاقية باريس عام 1856 السلام والعودة إلى حدود ما قبل الحرب، بما فيها انسحاب روسيا من ولايتي الأفلاق والبغدان، وكذلك حماية فرنسا للأماكن المقدسة.
-توفي السلطان عبد المجيد الأول مثل والده إثر إصابته بمرض السل، وكان ذلك في يوم 25 يونيو 1861 عن عمر ناهز الـ 39 سنة.